ريهام حسني

الإنسان و التقنية: بين الشراكة و الحشد المعرفي

 

مازال مؤتمر “الأدب الإلكتروني العربي: آفاق جديدة و رؤى عالمية” و الذي عقد فبراير الماضي بجامعة روتشستر للتكنولوجيا بدبي، مازال يلقي بظلاله الفكرية على واقعنا الرقمي المعاصر. قدم المؤتمر أفكارًا و رؤى جديدة من مختلف المشارب و التوجهات، خاصة فيما يتعلق بمحاضرتي المتحدثتين الرئيسيتين للمؤتمر، الناقدة العربية الأشهر دكتور زهور كرام، الأستاذة بجامعة محمد الخامس بالمغرب، و شيخة نقاد الرقمية دكتور كاثرين هيلز، الأستاذة بجامعة دوق الأمريكية.

 

من اللافت للنظر وجود حالة من التلاقي بين أفكار الناقدتين رغم اختلاف الأصول الفكرية و الثقافية لكل منهما، مما يدل على أن اللحظة الراهنة، بكل معطياتها و تحدياتها، تفرض نفسها و بقوة على الساحة الفكرية العربية و العالمية. هناك دلالة أخرى مفادها أن الاشتغال بالأسئلة التقنية في العالم العربي يسير بشكل موازي لما عليه الحال في الغرب، و ذلك بالطبع بفضل ما توفره الوسائط الرقمية من تجاوز لحدود الزمان و المكان.

 

انطلقت كرام في طرحها من مفهوم الشراكة، سواء كانت بين الإنسان و التقنية، أو بين المؤلف و القارئ كما هو الحال في التأليف النصي الإلكتروني. ترى كرام أن طبيعة الأدب الإلكتروني تفرض حالة من الشراكة التي تتجاوز الدعوة إلى الحوار بين الشعوب و الحضارات، كما تخلخل سلطة المركز و هيمنة المألوف. يوفر الأدب الإلكتروني، طبقًا لكرام، فرصة إعادة إنتاج النصوص من خلال تفعيل مبدأ الاختيار و تحديد مسار النص، و هو ما يؤثر على التنمية المجتمعية للأفراد من حيث مبادئ الديموقراطية و حقوق الإنسان و إرادة الأفراد. 

 

ركزت هيلز في محاضرتها على العلاقة بين الإنسان و الوسائط التكنولوجية و كيف تم استغلال هذه العلاقة في كتابة النصوص الأدبية الإلكترونية.  أطلقت هيلز على العلاقة بين الإنسان و الوسائط الرقمية مسمى  “الحشد المعرفي Cognitive Assemblage”. و يشير الحشد المعرفي، طبقًا لهيلز، إلى “شبكة علاقات تساعد على نقل المعلومات و التفسيرات و المعاني بين الإنسان و الوسائط التكنولوجية.” و تضيف هيلز أن “سقوط الإنسان و الوسائط التكنولوجية داخل أو خارج هذه الشبكة من العلاقات بصور مختلفة هو ما يساعد على خلق المعاني و التفسيرات و نشرها و توزيعها و تفاعلها خلال هذه الشبكة.” و ترى أيضًا أنه على الرغم من أن المقارنة بين ذكاء الإنسان و ذكاء الأدوات التكنولوجية التي يستخدمها كالكمبيوتر مقارنة مؤلمة، إلا أن الكمبيوتر يؤدي بشكل أفضل من الإنسان في بعض المجالات، و مع تطور الذكاء الاصطناعي العام، أصبح الكمبيوتر يتمتع بقدر من المرونة يوازي المستوى البشري في مجالات عديدة.

 

ترى هيلز أن العلاقات التي تربط بين الإنسان و وسائط الكمبيوتر علاقات تكافلية symbiotic، و كلما كانت هذه العلاقات قوية، كلما ازداد ارتباط مصير الطرف المسيطر (الإنسان) بمصير الطرف المتكافل (الكمبيوتر). و بتأمل مبدأ “العلاقات التكافلية” الذي تطرحه هيلز، نجد أن هناك عدة أشكال للتكافل منها التعايش، و الافتراس، و التطفل، و تبادل المنفعة، و التنافس. و في تصوري، أعتقد أن أول علاقة تكافلية بين الإنسان و الوسائط الرقمية قد اتخذت شكل التعايش، حيث يوجد طرف مستفيد و هو الإنسان، بينما الطرف الآخر غير متضرر و لا منتفع. و بمرور الوقت و مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، تطورت هذه العلاقة لتأخذ شكل التنافس بين الإنسان و الوسائط الرقمية. هناك شكل واضح من أشكال التنافس بين الإنسان و الوسائط الرقمية للسيطرة على العالم. و لا أدل على ذلك من فوز روبوت ياباني في دورة التصفيات الأولى في مسابقة أدبية لكتابة الرواية منذ عامين.

 

و مع استمرار التطور التكنولوجي، أعتقد أن علاقة الافتراس ستكون المسيطرة على طبيعة التعامل بين الإنسان و التقنية في المستقبل القريب، و لعل فضيحة “فيسبوك-كامبريدج أنالاتيكا” The Facebook-Cambridge Analytica data scandal هي أحد الأدلة على هذا التوقع، حيث قامت شركة فيسبوك باستغلال بيانات خمسين مليون مستخدم، أغلبهم أمريكان، لتوجيههم سياسيًا لصالح انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة مما يقوض مفهوم الديموقراطية في مجتمعات عديدة. و لم يقتصر النقاش على الانتخابات الأمريكية، بل امتد لمعرفة أثر وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك على مواقف عالمية أخرى مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما أطلق عليه “البريكست”. إذن، تعد الوسائط الرقمية الأداة الحالية للسيطرة على إرادة و وعي الشعوب.

 

و على المستوى الأكاديمي، لفت نظري فكرة جادة قد طرحها دكتور محمد ناصف الباحث في نظم المعلومات الجغرافية بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة أثناء نقاش أكاديمي، فكرة أن التقنية تفترس أو تبتلع العلم في الدرس الأكاديمي، كأن تبتلع الوسائط الرقمية الإنسانيات، فأصبح التحول من دراسة العلم إلى دراسة التقنية التي وجدت بالأساس لخدمة هذا العلم، و انتشر الخلط بين المفهومين، مما فتح الباب أما أسئلة كثيرة من نوعية ما هي طبيعة العلاقة بين العلم و التقنية؟، و ما الحدود الفاصلة بينهما؟

 

تشاركت الناقدتان مخاوفهما من “فوبيا التكنولوجيا” على حد تعبير كرام، و كيف أن التكنولوجيا تسلبنا إنسانيتنا، و تعزلنا عن المحيط الخارجي من حولنا، في حين ناقشت هيلز المخاوف من “الذكاء الفائق” superintelligence للآلة و إمكانية خروجه عن السيطرة، مما يجعل الإنسان يعيد النظر في فكرة أنه هو الكائن الوحيد المسيطر في هذا الكون، و أن يدرك أنه واحدًا من العديد من الكائنات الفاعلة في هذا الكون.